فصل: مسألة خلط القمح الجيد بالرديء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة تنازع الورثة على أرض مع الاختلاف في الحدود:

وسئل مالك عن رجل هلك وله ورثة وولد وترك أرضا فخاصم ولده قوم فيها فأقاموا البينة أنها أرضهم، ولم يشهدوا على الحدود، وشهد قوم على حدود تلك الأرض ولم يشهدوا على أنها لهم، وقالوا: لا علم لنا لمن هي. قال مالك: إذا شهدوا على الحدود ثبتت شهادة الذين شهدوا أنها لهم ورأيتها لهم.
قال القاضي: هذا كما قال من أن الشهادة في الأرض على الملك تلفق إلى الشهادة فيها على الحد؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو في الأرض المشهورة المعلومة المسماة المنسوبة التي تتميز بالنسبة والتسمية عن سواها عند من عرف حدودها، فإذا قال الشهود: نعلم الأرض الفلانية لفلان ولا نحدها. وقال غيرهم: نحن نعلم حدودها ولا ندري لمن هي وجب أن تلفق الشهادة في ذلك، إذ لا يقدح في علم من شهد أنها لفلان جهله بحدودها، ولا يقدح في علم من شهد بمعرفة حدودها جهله بمالكها، وهذا في التمثيل كالحرم الذي يعلم الفقهاء تحريمه والحكم بما يلزم فيه مما لا يلزم، ويجهلون حدوده، ويعلم غير الفقهاء من أهل الحرم حدوده، ويجهلون أحكامه، فيصح امتثال أمر الله تعالى فيه بتلفيق شهادتهم، إذ لا يقدح في معرفة من علم أحكامه الجهل بحدوده، ولا في معرفة من علم حدوده الجهل بأحكامه، فكذلك مسألتنا في الأرض يصح الحكم بها لمن شهد بملكها بتلفيق الشهادة على الملك إلى الشهادة على الحدود، وهذا بين لا خفاء به وبالله التوفيق.

.مسألة حرق كتب الخصومات التي طال عهدها:

ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها:
قال مالك: وقد كان قاض في زمن أبان بن عثمان بن عفان رفع إليه كتب قد تقادم أمرها والتبس الشأن فيها، فأخذها فأحرقها بالنار، فقيل لمالك: أيحسن ذلك؟ قال: نعم، إني لأراه حسنا، هذه أمور لا أدري ما هي.
قال محمد بن رشد: معنى هذه الكتب أنها كتب في الخصومة طالت المحاضر فيها والدعاوي، وطالت الخصومة حتى التبس أمرها على الحاكم، فإذا أحرقت قيل لهم: بينوا الآن ما تدعون، ودعوا ما تلبسون به من طول خصوماتكم واستأنفوا العمل، وهو حسن من الحكم على ما استحسنه مالك وبالله التوفيق.

.مسألة التنازع على ملكية حائط موروث:

ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان:
وسئل عن رجلين ورثا دارا أو حائطا، ثم إن أحد الرجلين تزوج امرأة وهلك عنها، فقال أخوه الباقي: إنما له من الدار كذا وكذا، فقالت له امرأته: لأي شيء كان لك سائرها؟ أنحلك إياها أبوك؟ فقال: هي لي وليس لزوجك منها إلا كذا وكذا، قال: لا يقبل قوله في ذلك.
قال القاضي: هذا بين على ما قال؛ لأن ذلك محمول على أنه بينهما على حسب ما ورثاه، فلا يقبل قول الذي ادعى أن له من ذلك أكثر من أخيه الهالك، إلا ببينة تقوم له على تحقيق ما يدعي، لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «البينة على من ادعى» وبالله التوفيق.

.مسألة النظر في قضاء أنفذه قاض قبله:

قال: ورأيته كتب إلى عامل في قضاء كان قد أمضاه عاملان قبله، فنظر فيه العامل الثالث، فجاءه رجل يستعين بالكتاب إليه فيه، فكتب إليه إن كان من قبلك أمضاه بحق فأنفذه لصاحبه.
قال محمد بن رشد: هذا يدل على أن للفقيه المقبول القول أن يكتب إلى الحاكم بالفتوى ويعلمه ما يصنع وإن لم يسأله الحاكم، وهذا في غير القضاة، وأما القضاة فلا ينبغي أن يكتب إليهم بما يفعلون إلا أن يسألوه؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى أنفة تؤذي، وفي كتابه إليه أن ينفذ ما أمضاه من قبله إن كان ما أمضاه بحق دليل على أنه أمران ينظر فيما أمضاه من قبله، فإن كان أمضاه بحق أنفذه، فحمل على هذا أحكام العمال على الرد حتى يتبين أنها كانت أمضيت بحق فتجاز. وهذا خلاف ما وقع من قوله في المدونة فيما قضت به ولاة المياه أن ذلك جائز، إلا أن يكون جورا بينا لأن ذلك من قوله يقتضي أن تكون أحكامهم على الإجازة فلا ينظر فيها ولا تتعقب وتجاز ما لم يتبين فيها الجور البين. وهذا الاختلاف إنما يصح في غير العدل من الولاة، فمرة رأى أحكامهم جائزة ما لم يتبين فيها الجور وهو مذهب أصبغ، وتارة رآها مردودة ما لم يتبين فيها الحق وهو اختيار ابن حبيب قياسا على الشهادة، وأما العدل منهم فلا اختلاف في أن أحكامهم محمولة على الجواز، وأنه لا يرد منها إلا ما يتبين فيه الجور، ويحتمل أن يحمل ما في المدونة على العدل، وما في هذه الرواية على غير العدل، فلا يكون في هذا اختلاف من قول مالك، وإن جهل حاله. فالذي أقول به أن ينظر إلى الأمير الذي ولاه، فإن كان عدلا فهو محمول على العدالة، وإن كان جائرا يولي غير العدول فهو محمول على غير العدالة، وإن كان غير عدل إلا أنه لا يعرف بالجور في أحكامه ولا بتوليته غير العدل جرى ذلك على الاختلاف في جواز أحكامه، واختلف الشيوخ عندنا في أحكام ولاة الكور مثل القواد، وتنازعوا في ذلك، فأمضاها أبو إبراهيم ولم يجزها اللؤلؤي حتى يجعل إليه مع القيادة والنظر في أمور الكورة النظر في الأحكام، واستحسن ابن أبي زمنين إذا كان للكورة قاض قد أفرد للنظر في الأحكام ألا يجوز حكم الولاة، وإن لم يكن لها قاض أن يجوز حكمهم لما في ذلك للناس من الرفق والانتصاف، وهو أحسن الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأنه إذا ولى مع القائد حكم في الكورة فقد بان بذلك أنه قد حجر عليه الحكم في الأحكام، وإذا لم يول معه فيها حكم وجب أن يجوز حكمه كما قال مالك في ولاة المياه، وسيأتي من معنى هذه المسألة في رسم أسلم من سماع عيسى وفي رسم الصبرة ورسم المكاتب من سماع يحيى، وفي رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ وبالله التوفيق.

.مسألة رمي الغير بالكفر:

وقال عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذا قال أحدكم لأخيه كافرا فقد باء بها أحدهما».
قال محمد بن رشد: هذا حديث يحتاج وجوها من التأويل: أحدها أن يكون معناه أن من قال لصاحبه يا كافر معتقدا أن الذي هو عليه هو الكفر، فأحدهما على كل حال كافر، إما المقول له إن كان كافرا، وإما القائل إن كان المقول له مؤمنا؛ لأنه إذا قال للمؤمن يا كافر معتقدا أن الإيمان الذي هو عليه كفر فقد حصل هو كافر باعتقاده إيمان صاحبه كفرا، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وأما إن قال لمؤمن يا كافر وهو يظنه كافرا ولا يعلم أنه مؤمن فليس بكافر، وإنما هو غلط. والثاني أن يكون معناه النهي عن أن يكفر الرجل صاحبه باعتقاد ما لا يتحقق أنه باعتقاده كافر؛ لأنه إن لم يكن باعتقاده ذلك كافرا كان القائل له قد باء بإثم ما رماه به من الكفر. والثالث أن يكون معناه النهي عن أن يظن المسلم بأخيه المسلم أنه يعتقد الكفر ويظهر الإسلام فيقول له يا كافر؛ لأنه إن لم يكن كذلك باء بإثم تكفيره، وهذا التأويل أشبه بمراد مالك؛ لأن الظاهر أنه احتج بالحديث على كتابه إلى العامل أن ينظر فيما أمضاه من قبله، إذ لم ير أن يكتب إليه برد ذلك من فعله مخافة أن يبوء بإثم حمله حكمه على الجور دون بغي وبالله التوفيق.

.مسألة رجل كانت بينه وبين أبيه خصومة فأراد أن يحلفه:

ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات:
وسئل مالك عن رجل كانت بينه وبين أبيه خصومة فأراد أن يحلفه فكره ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك يدل على أن له أن يحلفه، ولا يكون عاقا له بتحليفه إياه، إذ لا إثم في فعل المكروه، وإنما يستحب تركه، وهو قول ابن الماجشون في الثمانية أن تحليفه إياه في حقه ليس بعقوق له، وهو ظاهر قول ابن القاسم وأصبغ في المبسوطة أنه يقضى له بتحليفه إياه، ولا يكون عاقا بذلك، وقال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وسحنون: إنه لا يقضى له بتحليفه إياه، ولا يمكن من ذلك إن دعا إليه، ولا من أن يحده في حد يقع له عليه؛ لأنه من العقوق وهو مذهب مالك في المدونة في اليمين في كتاب المديان، وفي الحد في كتاب القذف وهو أظهر الأقوال، لقوله عز وجل: {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]. ولما جاء من أنه ما بر والديه من شد النظر إليهما أو إلى أحدهما. وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يمين للولد على والده، ولا للمملوك على سيده» ويشهد لصحته قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أنت ومالك لأبيك». قد روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الشهادات أنه يقضى له أن يحلفه في حق يدعيه عليه، وأن يحده في حد يقع له عليه، ويكون عاقا بذلك ولا يعذر فيه بجهل وهو بعيد؛ لأن العقوق من الكبائر، فلا ينبغي أن يمكن أحد من ذلك، وهذا فيما يدعيه الولد عليه، وأما إن ادعى الوالد عليه دعوى فنكل عن اليمين وردها عليه، أو كان له شاهد على حقه عليه، فلا اختلاف في أنه لا يقضي له عليه في الوجهين إلا بعد يمينه، وكذلك إن تعلق بيمينه حق لغير ابنه فإنه يلزمه اليمين باتفاق، كالأب يدعي تلف صداق ابنته والزوج يطلبه بالجهاز أو كالرجل يدعي على أب زوجته نحلة انعقد عليها نكاحه وهو منكر، وانظر إذا قام الأب طالبا لابنه بالنفقة عليه وأثبت العدم هل يقضي له بالنفقة عليه دون يمين من أجل أنه لا يمين للولد على والده؟ أو لا يقضي له عليه بها إلا بعد يمينه؛ لأنها يمين الحكم، وهي يمين يأخذ بها؟ والأمر في ذلك محتمل، وأحسب أني قد رأيت الخلاف في ذلك، والأظهر في ذلك عندي وجوب الحكم عليه باليمين وبالله التوفيق.

.مسألة طلب الجار من جارهنزع الخشب من جداره:

وسئل عن رجل كانت له خشب في حائط رجل أدخلها بإذن منه، ثم إن الذي له الحائط وقع بينه وبين الذي له الخشب شحناء، فقال: أخرج خشبك من حائطي. قال مالك: ليس ذلك له، على مثل هذا يخرجها على وجه الضرر، ولكن ينظر في ذلك، فإن كان احتاج إلى حائطه ليهدمه أو لينتفع به فهو أولى به.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك في هذه الرواية لمن أذن لجاره أن يضع خشبة على جداره أن يرجع فيما أذن له من ذلك ويأمره برفع خشبته عن جداره إلا أن يحتاج إلى حائطه ليهدمه أو لينتفع به، ومثله في سماع أشهب من كتاب العارية، وقال في المدونة وغيرها إن من أذن لرجل أن يبني في أرضه أو يغرس فيها فلما بنى وغرس فيها أراد أن يخرجه إن ذلك له ويعطيه قيمة ما أنفق في بنيانه وغرسه. فذهب ابن لبابة وابن أيمن وغيرهما من الشيوخ إلى أن ذلك اختلاف من القول، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى. وحكى العتبي عن سحنون أنه قال: إنما فرق بين المسألتين لحديث النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا يمنعن أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره». يريد أن من أهل العلم من يرى القضاء بالحديث، ويحمله على ظاهره في الوجوب، وهو قول ابن كنانة من أصحاب مالك، وإن لم يأذن صاحب الجدار، فكيف إذا أذن؟ وحكى ابن حبيب عن مالك وغيره من رواية مطرف وابن الماجشون أنه إذا أرفق جاره بوضع خشبة على جداره فليس له إلى رفعها ولا إلى هدم الحائط سبيل، طال الزمان أو قصر، احتاج إليه أو استغنى عنه، لا هو ولا ورثته بعده، ولا أحد ممن اشترى منهم إلا أن يهدم الجدار ثم يعيده صاحبه لهيئته فليس لصاحبه أن يعيد خشبة عليه إلا بإذن مستأنف، قالوا: وكذلك كل ما أذن فيه مما يقع فيه العمل والإنفاق من البنيان في حق الإذن والغرس والإرفاق بالماء من العيون أو البيار لمن ينشئ عليه غرسا ويبتدئ عليه عملا فلا رجوع فيه، عاش أو مات، باع أو ورث احتاج أو استغنى، وهو كالعطية. ولو اشترط أن يرجع في ذلك متى شاء لبطل الإذن على هذا الشرط قبل العمل، ولبطل الشرط بعد العمل، لما فيه من الضرر بالعامل. قالوا: وما كان لا يتكلف فيه عمل ولا كبير إنفاق، مثل فتح باب أو فتح طريق إلى مختلف في فناء الأذن، أو أرضه، أو إرفاق بماء لشفه أو لسقي شجر قد أنشئت وغرست قبل ذلك فنضب ماؤها، أو غارت آبارها، فهذا مما للآذن فيه الرجوع إذا شاء، إلا أن يكون يوم أذن له بهذه الأشياء قد حد له حدا، ووقت له وقتا من الأجل فيلزمه إلى مدته، أو يكون المأذون له قد باع واشترط للمشتري فيما أذن له فيه بعلم الآذن فيكون ذلك لازما له، إلا أنهم قالوا فيمن أذن لرجل أن يسوق على أرضه ماءه أو ماء من النهر، أو من ماء الآذن إلى أرض المأذون له، فليس له أن يرجع في ذلك وإن كان المأذون له لم يتكلف في ذلك كبير نفقة، مراعاة لإلزام ذلك عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة لعبد الرحمن بن عوف بغير إذنه وعلى غير طوعه، وإن كان العمل ليس عليه، واختار هذا ابن حبيب، وحكى عن أصبغ أن ذلك كله عنده سواء ما تكلف فيه عمل وإنفاق، وما لم يتكلف فيه ذلك، للآذن أن يرجع فيه إذا أتى عليه من الزمان ما يكون إلى مثله عارية مثل هذا، إلا في الذي أذن لرجل أن يغرس غرسا على مائة، فلما غرسه أراد أن يقطع الماء عنه فلا يكون ذلك له، قال: وهو على مذهب ابن القاسم. فيتحصل في هذه المسألة ستة أقوال: أحدها أنه ليس للآذن في شيء من ذلك كله أن يرجع فيه إلا أن يحتاج، وهو الذي يأتي على ما حكيناه على ابن لبابة وابن أيمن في تأويل الرواية. والثاني أنه ليس له أن يرجع في شيء من ذلك وإن احتاج. والثالث أن له أن يرجع في ذلك وإن لم يحتج ويدفع إلى المأذون له فيما كان له من ذلك عمل قيمة نفقته. والرابع أن للآذن أن يرجع في ذلك إذا مضى له ما يعار إلى مثله. والخامس الفرق بين الإذن في وضع الخشب على الجدار وبين سائر ذلك للحديث الوارد بالنهي عن المنع من ذلك. والسادس الفرق بين ما تكلف المأذون له فيه نفقة، وبين ما لم يتكلف فيه نفقة، وهذا الاختلاف كله إنما هو في الإذن المبهم الذي لم يصرح فيه بذكر هبة ولا عارية، فمنهم من حمله على الهبة فلم ير فيه رجوعا، ومنهم من حمله على العارية فرأى فيه الرجوع إذا مضى من الأمد ما يكون عارية ذلك الشيء إلى مثله، ومنهم من جعله من ناحية العدة التي لا تلزم، فرأى الرجوع فيه متى شاء، ومنهم من حمله فيما فيه نفقة على الهبة، وفيما لا نفقة فيه على العارية، على اختلافهم في العارية إذا لم يسم لها أجلا، هل تلزم أو لا تلزم؟ ومنهم من فرق بين الإذن في وضع الخشب على الجدار، وبين سائر الأشياء للحديث. ويختلف إذا غرس على مائه وهو ساكت، ثم أراد أن يقطع عنه الماء. قيل ذلك له بعد أن يحلف أن سكوته لم يكن رضى، وقيل: إن سكوته كالإذن ويجري الأمر في ذلك على ما ذكرناه من الاختلاف في الإذن المبهم وبالله التوفيق.

.مسألة مؤنة إصلاح السقف المنكسر بين الشريكين:

وسئل مالك عن الرجلين يكون بينهما المنزل، لأحدهما الأسفل وللآخر العلو، فينكسر السقف الأدنى الذي هو سقف البيت الأسفل، على من ترى إصلاحه؟ قال: على الأسفل. فقلت له: الخشب تريد؟ قال: نعم، قيل له: إن الأسفل يحتج فيقول: هو أرضك للأعلى، وأنت الذي تمشي عليها. قال: بل هو سقفه، وعليه أن يبنيه وهو مثل جداره الأسفل، وكذلك لو انهدم كان عليه أن يبنيه من أسفله حتى يسقفه يكون ذلك عليه كله. فقيل له: والحجر عليه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مثل ما في المدونة وغيرها ولا اختلاف أعلمه فيها، والدليل على صحتها قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33]. فلما أضاف عز وجل السقف إلى بيوتها وجب أن يحكم بالسقف لصاحب البيت إذا اختلف فيه مع صاحب الأعلى فادعاه كل واحد منهما لنفسه، وأن يحكم عليه أنه له، فيلزم بنيانه إذا نفاه كل واحد منهما عن نفسه وادعى أنه لصاحبه ليوجب عليه بنيانه، فإما أن يبني وإما أن يبيع ممن يبني على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وقال سحنون: يجبر على أن يبني ولا يجوز أن يبيع ممن يبني إلا أن يعجز عن بنيانه لأن في البيع على هذا الشرط عنده غررا فلا يجوز إلا عند الضرورة وبالله التوفيق.

.مسألة تجديد دعوى بعد موت من قضى فيها بحكم:

ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها:
وسئل مالك عن الرجلين يختصمان في الدار ويحضرهما رجال، فيقول القاضي لأحدهما: قد نظرت في أمرك فلا أرى لك حقا، فانصرفا وأقاما حتى مات، أترى ذلك قضاء؟ ثم قام بعد ذلك أولادهما يختصمون في ذلك، فأقام ولد الذي خاصمه البينة أنه قال له القاضي: لا أرى لك حقا. قال مالك: إن مما يبين ذلك عندي أن يكون ذلك في يد الميت حتى مات. فقلت له: لم يزل ذلك في يده حتى مات. قال: فأرى ذلك قضاء ولا أرى لهم شيئا.
قال محمد بن رشد: لا يفتقر حكم القاضي إلى حيازة على ما يأتي في رسم أسلم من سماع عيسى، وفي رسم المكاتب من سماع يحيى، إلا أنه لما لم يكن قول القاضي لأحد الخصمين قد نظرت في أمرك فلا أرى لك حقا إفصاحا منه بالقضاء عليه بالتعجيز، استدل على ذلك بكون الدار في يد خصمه إلى أن توفي، فأمضى عليه الحكم بالتعجيز، ولم ير لورثته بعد ذلك قياما. وقد اختلف فيمن أتى ببينة بعد الحكم عليه بالتعجيز هل تقبل منه أم لا؟ على ثلاثة أقوال-: أحدها أنها لا تقبل منه كان الطالب أو المطلوب، وهو قول ابن القاسم في رسم النكاح من سماع أصبغ كتاب النكاح في تعجيز الطالب، وإذا قاله في الطالب فأحرى أن يقوله في المطلوب، ودليله قول مالك في هذه الرواية. والقول الثاني أنها تقبل منه كان الطالب أو المطلوب إذا كان لذلك وجه، وهو ظاهر ما في المدونة إذ لم يفرق فيها بين تعجيز الطالب والمطلوب، وقال: إن القاضي يقبل منه ما أتى به بعد التعجيز إذا كان لذلك وجه. والقول الثالث أن ذلك يقبل من الطالب ولا يقبل من المطلوب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه إنما قال ذلك في الطالب، والمطلوب بخلافه، إذ المشهور فيه أنه إذ عجز فعجز وقضي عليه مضى الحكم، ولم يسمع منه ما أتى به بعد ذلك، وإلى هذا ذهب ابن الماجشون في المطلوب، وفرق في الطالب بين أن يعجز في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجز بعد أن وجب على المطلوب عمل، ثم رجع عليه، ففي تعجيز المطلوب قولان، وفي تعجيز الطالب ثلاثة أقوال قيل: هذا في القاضي الحاكم دون من بعده من الحكام. وقيل: ذلك فيه وفيمن بعده من الحكام، وهذا الاختلاف إنما هو إذ أعجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه السلطان بعد التلوم والإعذار وهو يدعي أن له حجة فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم عليه، فلا يسع بعد نفوذه عليه وبالله التوفيق.

.مسألة القضاء على الغائب:

ومن كتاب أوله سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وسئل مالك عن الرجل الغائب هل يقضى عليه؟ فقال مالك: أما الدين فإنه يقضي عليه، وأما كل شيء كانت فيه حجج فإنه لا يقضى عليه. قال سحنون: والدين مثله يكون فيه الحجج.
قال القاضي: الغائب في مذهب مالك على ثلاثة أقسام:
أحدها غائب قريب الغيبة على مسيرة اليوم واليومين والثلاثة، فهذا يكتب إليه وبعذر إليه في كل حق. فإما وكل وإما قدم، فإن لم يفعل حكم عليه في الدين، وبيع فيه ماله من أصل وغيره، وفي استحقاق العروض والحيوان والأصول وجميع الأشياء من الطلاق والعتاق وغير ذلك، ولم يرج له حجة في شيء من ذلك. والثاني غائب بعيد الغيبة على مسيرة العشرة الأيام وشبهها، فهذا يحكم عليه فيما عدا استحقاق الرباع والأصول من الديون والحيوان والعروض، وترجى له الحجة في ذلك. والثالث غائب منقطع الغيبة مثل مكة من إفريقية والمدينة من الأندلس وخراسان، فهذا يحكم عليه في كل شيء من الديون والعروض والحيوان والرباع والأصول، وترجى له الحجة في ذلك، فالغائب الذي تكلم عليه في المدونة هو الغائب على مسيرة العشرة الأيام وشبهها؛ لأن هذه الغيبة هي التي يقضى عليه فيها عند مالك في الديون والحيوان والعروض، ولا يقضى عليه فيها في الرباع والأصول التي تكون فيها الحجج، ولم يتكلم في الرواية على الحيوان والعروض، وإرادته أنه يحكم عليه فيها كالديون، وهو نص قول ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، وترجى له الحجة عند مالك فيما يقضي به عليه من ذلك، فإن جرح البينة التي حكم عليه بها بإسفاه أو عداوة رجع فيما حكم به عليه من الحيوان والعروض، وفيما قضى عنه من الديون، ولم يرد ما بيع عليه فيها؛ لأنه بيع بوجه شبهة. وذهب سحنون إلى مذهب ابن الماجشون في أنه يقضى عليه في هذه الغيبة في الرباع وغيرها، وإلى مذهبه هذا نحا بقوله: والدين مثله يكون فيه الحجج. يقول: إنه يقضى عليه في الرباع وإن كانت فيها الحجج كما يقضى في الدين، إذ قد يكون فيه الحجج ولا يرجع في شيء من ذلك عندهما بتجريح البينة التي حكم عليه بها بعداوة أو إسفاه، إلا أن ينكشف أنهم عبيد، أو على غير الإسلام، أو مولى عليهم، فإن انكشف أنهم على شيء من هذه الأحوال، رجع فيما قضى به عليه من الأصول والعروض والحيوان، وفيما قضى عنه من الديون، ولم يرد ما بيع عليه فيها من ماله؛ لأنه بيع بوجه شبهة، فعلى قولهما يوكل للغائب وكيل يحتج عنه، ويعذر إليه، فلا يرجى له حجة، وعلى مذهب ابن القاسم لا يوكل له وكيل، وترجى له الحجة. وأهل العراق لا يرون أن يقضى على الغائب في شيء من الأشياء، وسيأتي في نوازل سحنون الحجة عليهم في ذلك وبالله التوفيق.

.مسألة ما تغلظ فيه اليمين من الأموال:

قال: مالك: إذا كان على القوم ربع دينار بذكر حق واحد لم أر أن يحلفوا عند المنبر.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أنه لا يحلف عند المنبر إلا في ربع دينار فصاعدا، وهذا ما لا إشكال فيه ولا اختلاف؛ لأن يمين كل واحد منهم إنما هي على ما يصير عليه من ربع الدينار، وهذا إذا لم يكونوا شركاء، ولا كان بعضهم حميلا ببعض، وأما لو كان ربع الدينار لقوم على رجل واحد من ذكر حق واحد لوجب إن قاموا عليه جميعا أن يحلفوه يمينا واحدة عند المنبر، وإن افترقوا حلف لكل من قام عليه منهم فيما ينوبه من ربع الدينار حيث ما قضى عليه لا عند المنبر، هذا معنى قول ابن المواز عندي في مساواته بين أن يكون ربع الدينار لرجلين أو لرجل على رجلين في أن اليمين في ذلك لا يكون في المسجد الجامع ولا عند المنبر، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا يحلف عند المنبر وإن قاموا عليه جميعا فحلفوه يمينا واحدة، وهو ظاهر قول ابن المواز، والذي يوجبه النظر أن يحلف يمينا واحدة عند المنبر، قاموا عليه معا أو مفترقين على قياس ما قالوا في الرجل يدعي عليه ورثة الرجل أنه غاب لهم من تركة الميت على شيء أنه يحلف لجميعهم يمينا واحدة، وأنه إن قام أحدهم عليه فحلفه كانت اليمين لجميعهم، ولم يكن لمن بقي منهم أن يحلفه ثانية؛ لأن اليمين إذا كانت بأمر حكم فهو حكم ماض وفصل، وممن نص على ذلك ابن الهندي في وثائقه. وقوله: عند المنبر يريد منبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لأنه لا يرى الاستحلاف عند المنبر إلا في منبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لقوله: «من حلف على منبري إثما تبوأ مقعده من النار» وأما في غير المدينة فإنما يحلف في المسجد الجامع عند المنبر، لحرمة موضعه من المسجد لا لحرمته في نفسه، إذ لو نقل عن موضعه إلى موضع سواه من المسجد أو غيره لم تنقل اليمين عن موضعها إلى حيث المنبر، بخلاف منبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في ذلك، فاليمين في المدينة عند منبره عَلَيْهِ السَّلَامُ حيث ما كان من المسجد، وليس هو عند محرابه؛ لأنه زيد في قبلته فبقي المنبر في موضعه، وفي غير المدينة من جوامع الأمصار عند المحراب، وفي مكة ما بين الركن والمقام. والشافعي لا يرى اليمين عند المنبر بالمدينة ولا بين الركن والمقام بمكة إلا في عشرين دينارا فصاعدا، وحجته ما روي أن عبد الرحمن بن عوف أبصر قوما يحلفون بين الركن والمقام، فقال: أعلى دم؟ قيل: لا، قال: أفعلى أمر عظيم؟ قيل: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام. وفي بعض الروايات أن يهات الناس بهذا المقام أي يأنس الناس به، يقال يهات به إذا أنست به. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا يجب الاستحلاف عند منبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ولا فيما بين الركن والمقام على أحد في قليل الأشياء ولا كثيرها، ولا في الدماء ولا في غيرها. قالوا: وإنما يحلف الحكام من وجبت عليه اليمين في مجالسهم. قالوا: وقد أبى زيد بن ثابت أن يحلف على المنبر، فالأخذ بمذهبه أولى من اتباع مروان على رأيه. وليس قولهم بصحيح؛ لأن زيدا علم أن ما حكم به مروان عليه هو الحق، وكره أنه يصير يمينه عند المنبر، ولو كانت اليمين عنده لا تجب عند المنبر لأنكر على مروان قضاءه عليه بذلك، كما أنكر عليه غير ذلك من الأشياء والله أعلم وبه التوفيق.

.مسألة التغليظ بالحلف في المسجد الجامع على الأموال:

ومن كتاب القبلة:
قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: يحلف في المسجد الجامع في الأيمان إذا كان ذلك يبلغ ربع دينار فصاعدا. وأما الشيء التافه فإنه يحلف في مقامه، وحيث ما قضي عليه باليمين. قال مالك: ويحلفون قياما. قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وقوله فيها: إنه يحلف في المسجد الجامع إذا كان ربع دينار فصاعدا خلاف ظاهر ما في المدونة. لأنه إنما ذكر فيها ربع الدينار في الحلف عند منبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقال: إنه يحلف في المسجد الجامع فيما له بال، معناه وإن كان أقل من ربع دينار على تأويل الشيوخ فيه. وقوله: ويحلفون قياما يحتمل أن يحمل على مما في التفسير لما في المدونة؛ لأنه إنما قال فيها: إن الحالف لا يستقبل به القبلة. وفي المبسوطة لمالك أنه يحلف قائما دبر الصلاة. وقد قيل: إنه يحلف قائما مستقبل القبلة، وهو مذهب ابن الماجشون، وقيل: ليس عليه أن يحلف قائما. وهو قول ابن كنانة، وفي صفة اليمين أيضا اختلاف كثير، والمشهور ما في المدونة أنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد على ذلك. وقد قيل: إنه يزيد في يمينه عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. وهو قول ابن كنانة في المدونة. وفي مختصر ابن شعبان أن من حلف عند المنبر فليقل: ورب هذا المنبر، وقد روي عن مالك وابن القاسم أن الحالف في القسامة يقول: أقسم بالله الذي أحيا وأمات. وقع ذلك في النوادر، وقاله ابن حبيب، ولو حلف والذي لا إله إلا هو وحده لم يجز، قاله أشهب في كتاب ابن المواز.

.مسألة خلط القمح الجيد بالرديء:

من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب البيوع قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن الرجل تكون معه السفينة فيشتري القمح الأسمر المتغير ويشتري القمح الأبيض فيصب بعضه على بعض. قال: ما أحب ذلك، قال: كل واحد منهما على حدته أحب إلي.
قال القاضي: هذا ما لا اختلاف فيه أنه لا يجوز خلط الجيد بالرديء من الطعام كله، ولا مما يكال أو يوزن من غير الطعام، وإن سن ذلك عند البيع؛ لأنه من الغش، وقد قال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من غشنا فليس منا». قال مالك في كتاب ابن المواز: ويعاقب فاعله، وكذلك البر والشعير، والسمن والعسل، فإن خلط ذلك لقوته كره له بيع ما فضل منه وإن قل. وقال ابن القاسم: إذا لم يتعمد خلطه للبيع فأرجو أن يكون خفيفا. وقاله مطرف وابن الماجشون في الواضحة. فقوله في هذه الرواية: ما أحب ذلك، كل واحد منهما على حدته أحب إلي هو على عادته في أن يقول في الحرام الذي لا يحل ولا يجوز: أكره ذلك ولا أحبه؛ لأنه كان يكره أن يقول حرام إلا على ما نص على تحريمه في الكتاب والسنة. وستأتي المسألة في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب السلطان ونتكلم عليها بأوعب من هذا الكلام إن شاء الله عز وجل وبه التوفيق.